أمريكا وروسيا.. احتواء جديد/د سماء سليمان

لا تزال السياسات التى وضعها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب نحو روسيا خلال ولايته الأولى تلقى بظلالها على توجهات السياسة الخارجية الأمريكية فى فترة رئاسته الثانية، الأمر الذى سيستمر تأثيره بلاشك على العلاقات الدولية وطبيعة النظام الدولي. فمن الواضح من خلال تصريحات له خلال حملته الانتخابية عام 2024، أعرب فيها عن استمرار تقاربه مع روسيا والتى بدأها فى فترة ولايته الأولى رغم أن إستراتيجية الأمن القومى التى قدمت لترامب فى عام 2017 كانت تصنف روسيا على أنها دولة عدو، وأعرب أيضا عن رغبته فى إعادة بناء العلاقات مع روسيا، مشيرًا إلى أن التعاون مع موسكو يمكن أن يكون مفيدًا للأمن العالمى والمصالح الأمريكية، مما يعنى تحولا غير معتاد فى السياسة الخارجية الأمريكية.

وهناك تحليلات كثيرة ترى فى هذا التقارب محاولة من الولايات المتحدة الأمريكية لتحييد روسيا فى صراعها مع الصين، مستندين فى رأيهم هذا على أن أبرز الملفات التى تشهد تأثيرًا مباشرًا لسياسات ترامب الجديدة فى فترته الثانية هو النزاع فى أوكرانيا، معتبرًا أن الولايات المتحدة يجب أن تركز على مصالحها الوطنية وأن تتجنب أن تصبح طرفًا مباشرًا فى النزاع.

والحقيقة أن التاريخ الحديث لم يشهد تقاربا أو تحالفا بين روسيا وأمريكا، ويرى بعض المحللين أن السياسات المطروحة على السطح تخفى وراءها العديد من الغايات والأهداف الأمريكية، وأن هناك رغبة أمريكية لاحتواء جديد لإسقاط ثان لروسيا الاتحادية وللصين وللدول الأوروبية ولأى دولة أو قوة تهدف إلى تقلد مكانة فى النظام الدولى وتنافس به الولايات المتحدة الأمريكية على قيادتها النظام الدولى الأحادى القطبية.

تعلم أمريكا طموح الدول الكبرى فى تحول النظام الدولى إلى متعدد الأقطاب لتوزيع المنافع عليها وللمحافظة على مكانتها فى النظام الدولى، إلا أن التاريخ يشهد على الصراع الذى لم يتوقف إلا بنهاية أحد طرفيه فى أثناء الحرب الباردة، والذى استنزفت فيه أمريكا الاتحاد السوفيتى باستخدام أدوات مختلفة منها سياسة الاحتواء كما شاركت أمريكا فى صراعات بالوكالة ضد حلفاء الاتحاد السوفيتى.

وبالإسقاط على الفترة الحالية، يرى بعض المحللين أن أمريكا سوف تستخدم روسيا كحصان طروادة الذى ستكسب به صراعها على طبيعة النظام الدولى، ويمكن اعتبار التسوية الحالية للحرب الروسية الأوكرانية والتى تصب فى مصلحة روسيا خطة احتواء جديدة فى العلاقة مع الشرق الأوسط وكذلك مع أوروبا حتى تتمكن أمريكا من استنزافها فى المنطقتين وفى الوقت نفسه التركيز فى علاقاتها مع الصين. وكبداية لخطة الاحتواء الجديدة، فقد أشار ترامب فى أول خطاب له، إلى أن أمريكا سوف تبدأ فى تخفيف العقوبات المفروضة على روسيا، خاصة فيما يتعلق بالقطاعات الاقتصادية والطاقة، فى خطوة وصفها بأنها «فرصة للسلام» وتعزيز التعاون الاقتصادى بين البلدين. ورغم الانتقادات الكثيرة حيث اعتبر البعض أن هذه الخطوة قد تُضعف الضغط الدولى على روسيا فى قضايا مثل تدخلاتها فى أوكرانيا وسوريا، وأن هذا التعاون من الممكن أن يشكل تهديدًا أكبر للهيمنة الأمريكية فى النظام الدولي.

ورغم عودة الاستقرار وتقليل الدعم العسكرى الأوروبى لأوكرانيا مع الأزمة الاقتصادية التى تمر بها الدول الأوروبية إلا أن القلق تزايد بين حلفاء أمريكا فى أوروبا خاصة دول البلطيق وبولندا من تراجع ترامب عن دعمهم فى حال تطورت الأزمة بشكل أكبر مع روسيا. كما أن ترامب لم يؤكد التزام أمريكا بحماية الأمن الأوروبى وتعزيز وجودها العسكرى فيها. كما أن ترامب لم يخفِ فى العديد من تصريحاته موقفه الانتقادى من حلف الناتو، مطالبًا دول الحلف بزيادة الإنفاق الدفاعى بشكل أكبر. كما أصبح ترامب أكثر حذرًا فى انتقاد روسيا مباشرة، حيث كان يكرر فى خطبه ضرورة «إعطاء الفرصة للسلام» وتجنب التصعيد العسكرى، مما يؤكد أن أمريكا لن تكبح جماح روسيا فى تحركاتها تجاه الدول الأوروبية، ولذا بدأت العديد من دول أوروبا الشرقية التى كانت تعتمد على الدعم الأمريكى فى مواجهة التهديدات الروسية.

أما فى منطقة الشرق الأوسط، فلايوجد موقف ظاهر تجاه القواعد العسكرية الروسية فى سوريا والتى أعربت الدول الأوروبية عن رغبتها فى تفكيكها من النظام السورى الجديد كشرط للمساعدات الأوروبية، كما تغير الموقف السورى منها الآن ولم تعد حديثا على وسائل الإعلام كما لم يتم التطرق إلى الموقف النهائى منها، وقد افتقرت سياسة ترامب فى التعامل مع روسيا فى سوريا إلى الوضوح، حيث كان هناك تناقض بين الرغبة فى عدم التورط أكثر فى النزاع وبين التلميحات المتكررة بتقارب مع روسيا، فضلا عن احتمالية ظهور دور أكبر لروسيا فى السودان وليبيا.

وقد لا يكون هذا الطرح الأمريكى باحتواء جديد مستبعدا لدى روسيا فى علاقتها مع أمريكا ترامب، ومن ثم من المتوقع أن يكون هناك تخطيط آخر لدى روسيا فى توظيف العلاقة مع ترامب لمزيد من النفوذ دون استنزاف مواردها، وذلك حيث ستكون حريصة للمحافظة على تعاونها مع الصين بل وتسريعه فى بعض المجالات، مثل الطاقة والتجارة، الأمر الذى سيكون له تأثيرات طويلة المدى على النظام الدولى ويزيد من تحديات الولايات المتحدة فى تعزيز مصالحها فى آسيا، وفى ظل مراقبة الصين للتطورات عن كثب.إن عدم الثقة يشوب العلاقة بين الأقطاب الدولية، ما يعنى استمرار الصراع بينهم على طبيعة النظام الدولى، كما يراقب كل طرف تصرفات الآخر بغية تحقيق أهدافه، كما من المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة مزيدا من المؤشرات إما لتقارب حقيقى أو لاحتواء جديد بين أمريكا وروسيا.

    د/سماء سليمان ،وكيل لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشيوخ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!