ضل التعليم الموريتاني..فهل يهتدي من ضلاله ؟/ ذ/محمد سدينا ولد الشيخ

ضل التعليم الموريتاني..فهل يهتدي من ضلاله ؟
ابتدع الإستعمار الفرنسي التعليم المعاصر الذي لم يؤسسه على إرث التعليم المحظري ولا على إرث التعليم العائلي المهني الذي كان سائدا في البلاد الموريتانية والذي مكن العائلات من الحفاظ على تراثها وتوفير متطلبات حياتها اليومية.
كان هناك تكامل بين التعليمين المحظري والعائلي اختص بموجبه التعليم العائلي بالجوانب المتعلقة بالمتطلبات المادية لحياة الإنسان ،في حين تولى التعليم المحظري الجوانب المتعلقة بإنسانية الإنسان والتي ترفعه عن مستوى الحيوانات.
التعليم النظامي المستورد سالف الذكر جاء من حضارة مادية لا تؤمن بالجوانب الروحية ،ما جعله يستهدف التكامل الذي كان بين التعليمين المحظري والعائلي ويضرب بقوة غريمه العائلي الذي سخر منه ومن أهله وألصق به أبشع التهم لينزع ثقة المجتمع فيه ويحل الدخيل محل الأصيل .
تلك الحيلة أريد منها إما تبعية عقل البلاد الثقافي للإستعمار وبالتالي التحكم فيها ،وإما بقائها على ما كانت عليه من تخلف خاصة في المجالات التي كانت تعتمد كليا على التعليم العائلي كالزراعة والصناعة والطب واستخدام السلاح وغيرها.
الضربة الاستعمارية سالفة الذكر أدت كذلك إلى تجريد التعليم المحظري عن المادة بشكل كلي وتقليص دوره في المجتمع والدولة ،ولولا حضارة القوافي التي فرضت وجودها في المنابر الوطنية والدولية لكان الوضع أشد سوءا.
بعد دولة الإستقلال التي لم تنتبه إلى تلك الفخاخ ظهر تعريب جزئي للتعليم المستورد هدفه إقصاء ضحاياه ،حيث تم تكوينهم لا ليكونوا قطع غيار في ماكينة الاقتصاد الباقية على هيئتها الإستعمارية وإنما ليكونوا خارج المعادلة التي خرج منها قبلهم أهل المحاظر وأهل التعليم العائلي .
بعد تلك المرحلة لبس التعليم المستورد مرة أخرى لباس لغة الإستعمار بشكل كلي ،لكنه شهد انتفاخا وتورما مرضيا جعله يتزايد على مستوى الكم خاصة في عدد الطلاب والمناهج ويتقلص على مستوى الكيف وخاصة على مستوى عدد الأساتذة والمعلمين الذي لم يعد يناسب عدد الطلاب.
إن شكل التعليم النظامي الحالي هري له قاعدة عريضة ما تلبث أن تتقلص وتتلاشي مع تقدم الطلاب في مراحل التعليم،الشيء الذي يمنع تخرج كفاءات تكفي لتغطية حاجات البلاد ،فأحرى تكفي لتقدمها. و به تبقى الفرص متاحة لليد العاملة الأجنبية التي تقذف بها كل حين جامعات الدول المساهمة في البنك الدولي الذي يشرف على تقييد موريتانيا ومنعها من رفع مستوى تعليمها ومن اكتتاب الأساتذة والمعلمين وغيرهم من الموظفين الضروريين لقيام الدولة بواجباتها اتجاه المواطن.
في هذا الجو يشعر المعلم و الأستاذ أن جهودهما يراد لها الفشل وأنهما أمام برامج غير ملائمة وأمام أعداد غير متناهية من الطلاب دون مساعد وأن قوى كل منهما تخور دون جدوى ،وأن عليهما طلب التفريغ في ظل التوظيف ..ولن يعترض البنك الدولي على ذلك.
نحن أمام تعليم بلا رسالة تحولت مطالب معلمه وأستاذه من مطالب عامة تتعلق بتوفير المكتبات ووسائل الإيضاح الأخرى إلى مطالب شخصية بحتة تتعلق بزيادة الرواتب .
كان معلم المحظرة صاحب رسالة وكان يجد في تحصيل العلم ليعلمه للناس،ومثله في ذلك معلم كل مهنة.
وفي هذا الإطار يتضح أن أي عملية إصلاح للتعليم المعاصر لا يمكن أن تبني على الأخطاء السابقة ،ما يحتم العودة إلى جذور الأزمة والابتعاد بالإصلاح عن الجهات والأشخاص الذين ساهموا في صناعتها أو من شأن تكوينهم الثقافي وطريقة تفكيرهم الإسهام في استمرارها.
إن الإصلاح يبدأ من الجذور، وعليه فإن افتقار التعليم إلى رسالة هو ما جعله جسما بلا روح يتقهقر ويهوي بشكل يهدد نضوب الموارد البشرية للدولة والتي يعني نضوبها بقاء الوظائف شاغرة بعد مغادرة المتقاعدين والأموات .
وإذا استمرت الأمور تسير على ذلك المنحى الخطي المنطلق من المعطيات الحالية سوف يتوقف العمل ويتوقف بتوقفه دفع المعاشات والأجور،وتتوقف كل خدمات الدولة ،وربما يأتي خلق جديد.
ينبغي أن ينطلق التعليم في الجمهورية الإسلامية الموريتانية من المحظرة باعتبارها مدرسة امتياز تعلم القرآن ولغته لتربط الإنسان بخالقه من جهة وتربطه بغيره من بني الإنسان وبعالم المحسوسات والأفكار والخيالات من جهة أخرى، ولتحافظ كذلك على كل جوانب ثقافته بما فيها اللغات الأهلية التي حافظت عليها من قبل.
من يريد الإصلاح لابد أن يعتني بالجوانب الروحية للإنسان والتي تمكنه من إدارة نفسه بنفسه من جهة ،وانسجامه في إطار قواعد أخلاقية مقدسة تنظم تعايشه في المجتمع .
الإنسان بطبعه مهيأ لتلقي العلم والتوجيه وتنفيذ الأوامر ،مادام يتكون من جسم بداخله عقل وبداخل ذلك جوهر هو القلب الذي يحدد للعقل المذكور نوعية التصرف المطلوب،ما يحتم على الدولة والمجتمع الإشراف على عملية تربية العقل والقلب معا تربية سليمة.
فالقلب يأمر العقل والعقل يأمر الجسم فيأتي العمل صالحا إن صلح القلب أوخبيثا إن خبث القلب وأوامره،مصداقا لقوله تعالى : وهديناه النجدين.
وخلاصة الأمر أن التعليم الموريتاني ضل طريقه وصار مضيعة للعمر والمال ،فهل يهتدي من ضلاله ؟

ذ/محمد سدينا ولد الشيخ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *